تتسم كتابات السادة الصوفية بعمق وكثافة ما تحويه النصوص من معان، وغزارة ما تشير إليها ألفاظها من دلالات، مما يستلزم قراءة فاحصة مدققة لتلك النصوص، مع التدرج في اختيار مستوى النص بما يتلائم مع مستوى القارئ ومعرفته باللغة والاصطلاحات الصوفية.
تتسم كتابات السادة الصوفية بعمق وكثافة ما تحويه النصوص من معان، وغزارة ما تشير إليها ألفاظها من دلالات، مما يستلزم قراءة فاحصة مدققة لتلك النصوص، مع التدرج في اختيار مستوى النص بما يتلائم مع مستوى القارئ ومعرفته باللغة والاصطلاحات الصوفية.
وعند القراءة الفاحصة المدققة لبعض كتب التصوف، يفاجئ المرء أحيانا بعبارات صادمة تجافي روح النص!! وقد يتساءل المرء حينها عما إذا كان هناك خطأ أو تصحيف وقع أثناء كتابة أو نسخ المخطوطة المعتمدة عند طباعة الكتاب، وهي فرضية ذات احتمالية عالية، كما هو معروف لدى قارئي المخطوطات.
مع ذلك -وفي بعض الحالات- تظل هناك فرضية أخرى، وهي فرضية حدوث دس أو تحريف متعمد للنص!! وقد أشار إلى ذلك الإمام الصوفي عبد الوهاب الشعراني في كتابه لطائف المنن، حيث يقول (ج2/ص190): (ومما منَّ الله تبارك وتعالى به علي صبري على الحسدة والأعداء لما دسوا في كتبي كلاما يخالف ظاهر الشريعة …).
وسنعرض في المثال التالي أحد الأمثلة التي تعضد فرضية الدس والتحريف في كتب الصوفية..
***
تعد شروح الحكم العطائية من أكثر كتب التصوف انتشارا، ويأتي في طليعة تلك الشروح شرح ابن عجيبة المسمى “إيقاظ الهمم في شرح الحكم”، وهو من أكثر الشروح تداولا في بلاد المغرب والمشرق على السواء.
وقد قامت دار المعارف المصرية بنشر هذا الشرح عام 1983 م بتحقيق الأستاذ محمد أحمد حسب الله ضمن سلسلة “ذخائر العرب”، واعتمدت كثير من دور النشر الأخرى على هذه الطبعة في إصداراتها اللاحقة. وحين القراءة في هذه الطبعة لشرح ابن عجيبة (ص79) نجد هذه العبارة:
“وللششتري رحمه الله: محبوبي قد عم الوجود، وقد ظهر في بيض وسود، وفي النصارى مع اليهود، وفي الخنازير مع القرود، وفي الحروف مع النقط، افهمني قط افهمني قط”.
هنا يشعر المرء بشيء من الغصة حين يقرأ “وفي الخنازير مع القرود”!! إذ لا يمكن بحال من الأحوال لصاحب ذوق لغوي سليم أن يستسيغ ورود مثل هذه الكلمات في هذا السياق.. سياق الحديث عن تجلي المحبوب -وهو الله- عز وجل في سائر مظاهر الكون.
لقد جاء ذكر القردة (3 مرات) والخنازير (مرة واحدة) في القرآن الكريم، في سياق الحديث عن غضب الله عز وجل على الكافرين، ولعنه للمخالفين، ومسخه لأصحاب السبت المعتدين، لتصبح بذلك تلك المفردات محملة بمعان لا يستساغ معها إيرادها في سياق يتحدث عن تجلي المحبوب. والسادة الصوفية أصحاب ذوق رفيع وحس لغوي مرهف، لا يتصور معه أن يكتبوا مثل هذه العبارة في هذا السياق!!!!
هنا يصبح الرجوع إلى المخطوط أمرًا لا بد منه، فتكون المفاجأة أن هذه الألفاظ غير واردة في المخطوط !!! ..
قد يقول قائل إن هذه الألفاظ “المُقحمة” قد تكون مُثبتة في مخطوطة أخرى خلاف هذه المخطوطة.. وهو أمر وارد في عالم المخطوطات!!
لكن بالرجوع إلى الطبعة المشار إليها نجد مذكورًا في مقدمتها تحت عنوان “عملنا في هذا الكتاب”: (وقد راجعنا هذه النسخة مراجعة دقيقة، وقوبلت على أكثر من نسخة …إلخ) دون تحديد لتلك النسخ وما إذا كانت مطبوعة أم مخطوطة!!
هنا يكون من الضروري الرجوع إلى مصادر أخرى للتحقق من صحة هذا النص المقتبس عن الششتري.
لقد أكثر ابن عجيبة في شرحه من الاستشهاد بأقوال وأشعار السادة الصوفية، واحتلت أشعار وأزجال أبي الحسن الششتري مساحة كبيرة في اقتباسات ابن عجيبة، ومنها هذا النص موضع التدقيق. وقد قام العلامة الدكتور علي سامي النشار بتحقيق ونشر ديوان الششتري تحقيقا علميا رائدا، صدرت طبعته الأولى عن منشأة المعارف بالإسكندرية عام 1960م.
وبالرجوع إلى ديوان الششتري تأكد لنا ثانية أن هذه الألفاظ ليست من كلام الششتري، وأنها مقحمة دخيلة في شرح ابن عجيبة!!!
يتضح لنا كذلك من خلال قراءة نص الششتري مدى انسجام جميع الألفاظ مع سياق الحديث عن تجلي المحبوب في الكون، دون أي “حشرجة” لغوية كما هو الحال مع تلك الألفاظ الدخيلة المقحمة.
